الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الجلالين ***
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)} {وَقَالَ الذى اشتراه مِن مِّصْرَ} وهو (قطفير) العزيز {لاِمْرَأَتِهِ} زليخا {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} مقامه عندنا {عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} وكان حصوراً {وكذلك} كما نجيناه من القتل والجبِّ وعطفنا عليه قلب العزيز {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض} أرض مصر حتى بلغ ما بلغ {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} تعبير الرؤيا عطف على مقدّر متعلق (بمكّنّا): أي لنملِّكه، أو الواو زائدة {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} تعالى لا يعجزه شيء {ولكن أَكْثَرَ الناس} وهم الكفار {لاَّ يَعْلَمُونَ} ذلك.
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)} {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} وهو ثلاثون سنة أو وثلاث {اتَيْنَاهُ حُكْمًا} حكمة {وَعِلْماً} فقها في الدين قبل أن يبْعَث نَبيَاً {وكذلك} كما جزيناه {نَجْزِى المحسنين} لأنفسهم.
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)} {وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا} هي زليخا {عَن نَّفْسِهِ} أي طلبت منه أن يواقعها {وَغَلَّقَتِ الأبواب} للبيت {وَقَالَتِ} له {هَيْتَ لَكَ} أي هلمّ، واللام للتبيين. وفي قراءة بكسر الهاء وأخرى بضم التاء {قَالَ مَعَاذَ الله} أعوذ بِاللّه من ذلك {إِنَّهُ} أي الذي اشتراني {رَبِّى} سيدي {أَحْسَنَ مَثْوَاى} مقامي فلا أخونه في أهله {إَِنَّهُ} أي الشأن {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} الزناة.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} قصدت منه الجماع {وَهَمَّ بِهَا} قصد ذلك {لَوْلآ أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ} قال ابن عباس: (مَثَلَ له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله) وجواب «لولا» لجامعها {كذلك} أريناه البرهان {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} الخيانة {والفحشآء} الزنا {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} في الطاعة. وفي قراءة بكسر اللام: أي المختارين.
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)} {واستبقا الباب} بادرا إليه يوسف للفرار وهي للتشبث فيه، فأمسكت ثوبه وجذبته إليها {وَقَدَّتْ} شقت {قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا} وجدا {سَيِّدَهَا} زوجها {لدى الباب} فنزّهت نفسها، ثم {قَالَتْ مَا جَزآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} زناً {إِلاَّ أَن يُسْجَنَ} يحبس في سِجْن {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم بأن يضرب.
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)} {قَالَ} يوسف متبرئاً {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَآ} ابن عمها. روي أنه كان في المهد {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ} شُقَّ {مِن قُبُلٍ} قدّام {فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذبين}.
{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} خلف {فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين}.
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)} {فَلَماَّ رءَا} زوجُها {قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ} أي قولك {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ} الخ {مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ} أيها النساء {عظِيمٌ}.
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} ثم قال يا {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} الأمر ولا تذكره لئلا يشيع {واستغفرى} يا زليخا {لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} الآثمين، واشتهر الخبر وشاع.
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)} {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى المدينة} مدينة مصر عبدها {عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} تمييز أي دخل حبه شغاف قلبها أي غلافه {إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضلال} أي في خطأ {مُّبِينٍ} بيّن بحبها إياه.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)} {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} غِيبتهنّ لها {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ} أعدت {لَهُنَّ مُتَّكَئاً} طعاما يقطع بالسكين للاتكاء عنده وهو الأترج {وَءَاتَتْ} أعطت {كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ} ليوسف {اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} بالسكاكين ولم يشعرن بالألم لشغل قلبهن بيوسف {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} تنزيهاً له {مَا هذا} أي يوسف {بَشَرًا إِنْ} ما {هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} لما حواه من الحسن الذي لا يكون عادة في النسمة البشرية. وفي الحديث (أنه أُعْطِيَ شطر الحسن).
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)} {قَالَتِ} امرأة العزيز لما رأت ما حل بهنّ {فذلكن} فهذا هو {الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} في حبه بيان لعذرها {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} امتنع {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءامُرُهُ} به {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصاغرين} الذليلين فقلن له: أطع مولاتك.
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} {قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ} أمل {إِلَيْهِنَّ وَأَكُن} أَصِرْ {مِّنَ الجاهلين} المذنبين والقصد بذلك الدعاء فلذا قال تعالى:
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} {فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} دعاءَه {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السميع} للقول {العليم} بالفعل.
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)} {ثُمَّ بَدَا} ظهر {لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الأيات} الدالات على براءة يوسف أن يسجنوه دلّ على هذا {لَيَسْجُنُنَّهُ حتى} إلى {حِينٍ} ينقطع فيه كلام الناس، فسجن.
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)} {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ} غلامان للملك أحدهما ساقيه والآخر صاحب طعامه، فرأياه يَعبُر الرؤيا فقالا لنختبرنه {قَالَ أَحَدُهُمَآ} وهو الساقي {إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا} أي عنبا {وَقَالَ الأخر} وهو صاحب الطعام {إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبّئْنَا} خبِّرنا {بِتَأْوِيلِهِ} بتعبيره {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}.
{قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)} {قَالَ} لهما مخبرا أنه عالم بتعبير الرؤيا {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في منامكما {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} في اليقظة {قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا} تأويله. {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى} فيه حث على إيمانهما، ثم قوّاه بقوله {إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ} دين {قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالأخرة هُمْ} تأكيد {كافرون}.
{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)} {واتبعت مِلَّةَ ءَابَاءِي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ} ينبغي {لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله مِن} زائدة {شَئ} لعصمتنا {ذلك} التوحيد {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس} وهم الكفار {لاَ يَشْكُرُونَ} الله فيشركون.
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)} ثم صرح بدعائهما إلى الإيمان فقال {يَا صَاحِبَيِ} ساكني {السجن ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} خير؟ استفهام تقرير.
{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} أي غيره {إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ} سميتم بها أصناماً {أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنْزَلَ الله بِهَا} بعبادتها {مِّن سلطان} حجة وبرهان {إن} ما {الحكم} القضاء {إلاَّ لِلَّهِ} وحده {أَمْرَ ألاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك} التوحيد {الدين القيم} المستقيم {ولكن أَكْثَرَ الناس} وهم الكفار {لاَّ يَعْلَمُونَ} ما يصيرون إليه من العذاب فهم يشركون.
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)} {ياصاحبى السجن أَمّآ أَحَدُكُمَا} أي الساقي فيخرج بعد ثلاث {فَيَسْقِى رَبَّهُ} سيِّده {خَمْرًا} على عادته {وَأَمَّا الأخر} فيخرج بعد ثلاث {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ} هذا تأويل رؤياكما، فقالا ما رأينا شيئاً، فقال {قُضِىَ} تمَّ {الأمر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} سألتما عنه صدقتما أم كذبتما.
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)} {وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ} أيقن {أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} وهو الساقي {اذكرنى عِندَ رَبِّكَ} سيِّدك فقل له إنّ في السجن غلاماً محبوساً ظلماً، فخرج {فَأَنْسَاهُ} أي الساقِيَ {الشيطان ذِكْرَ} يوسف عند {رَبِّهِ فَلَبِثَ} مكث يوسف {فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ} قيل سبعاً، وقيل اثنتي عشرة.
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)} {وَقَالَ الملك} ملك مصر (الريَّان بن الوليد) {إِنِّى أرى} أي رأيت {سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ} يبتلعهنّ {سَبْعٌ} من البقر {عِجَافٌ} جمع (عجفاء) {وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ} أي سبع سنبلات {يابسات} قد التوت على الخضر وعلت عليها {يابسات يأَيُّهَا الملأ أَفْتُونِى فِى رؤياى} بيِّنوا لي تعبيرها {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} فاعبُروها.
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)} {قَالُواْ} هذه {أضغاث} أخلاط {أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بعالمين}.
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)} {وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا} أي من الفَتَيَيْن وهو الساقي {وادكر} فيه إبدال التاء في الأصل دالاً وإدغامها في الدال أي تذكر {بَعْدَ أُمَّةٍ} حينٍ يوسفَ، قال {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} فأرسلوه، فأتى يوسف فقال.
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)} يا {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} الكثير الصدق {أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى الناس} أي الملك وأصحابه {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} تعبيرها.
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)} {قَالَ تَزْرَعُونَ} أي ازرعوا {سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} متتابعة وهي تأويل (السبع السمان) {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ} أي اتركوه {فِى سُنبُلِهِ} لئلا يفسده {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} فادرسوه.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)} {ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك} أي السبع المخصبات {سَبْعٌ شِدَادٌ} مجدبات صعاب وهي تأويل (السبع العجاف) {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} من الحب المزروع في السنين المخصبات: أي تأكلونه فيهنّ {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} تدّخرون.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} {ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك} أي السبع المجدبات {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس} بالمطر {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} الأعناب وغيرها لخصبه.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)} {وَقَالَ الملك} لما جاءه الرسول وأخبره بتأويلها {ائتونى بِهِ} أي بالذي عبرها {فَلَمَّا جَآءَهُ} أي يوسفَ {الرسول} وطلبه للخروج {قَالَ} قاصداً إظهار براءته {ارجع إلى رَبّكَ فَاسئَلْهُ} أن يسأل {مَا بَالُ} حال {النسوة الاتى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى} سيدي {بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} فرجع فأخبر الملك فجمعهن.
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)} {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} شأنكنّ {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} هل وجدتن منه ميلاً إليكن؟ {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امرأت العزيز الئان حَصْحَصَ} وضح {الحق أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} في قوله {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} فأُخْبر يوسف بذلك فقال.
{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)} {ذلك} أي طلب البراءة {لِيَعْلَمَ} العزيز {أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ} في أهله {بالغيب} حال {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين} ثم تواضع لله تعالى فقال:.
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} {وَمآ أُبَرِّئ نَفْسِى} من الزلل {إِنَّ النفس} الجنس {لأَمَّارَةٌ} كثيرة الأمر {بالسوء إِلاَّ مَا} المعنى (مَنْ) {رَحِمَ رَبِّى} فعصمه {إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} {وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} أجعله خالصاً لي دون شريك، فجاءه الرسول وقال: أجب الملك، فقام وودّع أهل السجن ودعا لهم، ثم اغتسل ولبس ثياباً حسنة ودخل عليه {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ} له {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} ذو مكانة وأمانة على أمرنا، فماذا ترى أن نفعل؟ قال: اجمع الطعام وازرع زرعاً كثيراً في هذه السنين المخصبة وادّخر الطعام في سنبله فتأتي إليك الخلق ليمتاروا منك، فقال: ومن لي بهذا؟.
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} {قَالَ} يوسف {اجعلنى على خَزَآئِنِ الأرض} أرض مصر {إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ذو حفظ وعلم بأمرها، وقيل كاتب حاسب.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)} {وكذلك} كإنعامنا عليه بالخلاص من السجن {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض} أرض مصر {يَتَبَوَّأُ} ينزل {مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ} بعد الضيق والحبس، وفي القصة أن الملك توجَّه وختَّمه وولاه مكان العزيز وعزله، ومات بعدُ فزوّجه امرأته فوجدها عذراء، وولدت له ولدين، وأقام العدل بمصر ودانت له الرقاب {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}.
{وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)} {وَلأَجْرُ الأخرة خَيْرٌ} من أجر الدنيا {لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} ودخلت سِنُو القحط وأصاب أرض كنعان والشام.
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)} {وَجآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} إلا (بنيامين) ليمتاروا لما بلغهم أن عزيز مصر يعطي الطعام بثمنه {فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} أنهم إخوته {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} لا يعرفونه لبعد عهدهم به وظنهم هلاكه، فكلموه بالعبرانية، فقال كالمنكر عليهم: ما أقدمكم بلادي؟ فقالوا للميرة، فقال: لعلكم عيون، قالوا: معاذ الله، قال: فمن أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبي الله. قال: وله أولاد غيركم؟ قالوا: نعم كنا اثني عشر فذهب أصغرنا هلك في البريّة وكان أحبَّنا إليه، وبقي شقيقه فاحتبسه ليتسلى به عنه، فأمر بإنزالهم وإكرامهم.
{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)} {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} وفَّى لهم كيلهم {قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ} أي (بنيامين) لأعلم صدقكم فيما قلتم {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الكيل} أُتمه من غير بخس {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين}؟.
{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)} {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} أي ميرة {وَلاَ تَقْرَبُونِ} نهي أو عطف على محل «فلا كيل» أي تُحْرَموا ولا تَقْرَبوا.
{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)} {قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ} سنجتهد في طلبه منه {وَإِنَّا لفاعلون} ذلك.
{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)} {وَقَالَ لِفِتْيَانِه} وفي قراءة «لفتيته» غلمانه { اجعلوا بضاعتهم} التي أتوا بها ثمن الميرة وكانت دراهم {فِى رِحَالِهِمْ} أوعيتهم {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} وفرغوا أوعيتهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلينَا لأَنّهم لا يستحلون إمساكها.
{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)} {فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل} إنْ لم ترسل أخانا إليه {فَأَرْسِلْ مَعَنآ أَخَانَا نَكْتَلْ} بالنون والياء {وَإِنَّا لَهُ لحافظون}.
{قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)} {قَالَ هَلْ} ما {ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ} يوسف {مِن قَبْلُ} وقد فعلتم به ما فعلتم؟ {فالله خَيْرٌ حافظا} وفي قراءة «حافظاً» تمييز كقولهم لِلّهِ دره فارساً {وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} فأرجو أن يمنّ بحفظه.
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)} {وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِى} «ما» استفهامية، أي: أيَّ شيء نطلب من إكرام الملك أعظم من هذا؟ وقرئ بالفوقانية: خطاباً ليعقوب، وكانوا ذكروا له إكرامه لهم {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} نأتي بالميرة لهم وهي الطعام {وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} لأخينا {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} سهلٌ على الملك لسخائه.
{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)} {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا} عهدا {مِنَ الله} بأن تحلفوا {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} بأن تموتوا أو تغلبوا فلا تطيقوا الإتيان به، فأجابوه إلى ذلك {فَلَمَّآءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} بذلك {قَالَ الله على مَا نَقُولُ} نحن وأنتم {وَكِيلٌ} شهيد، وأرسله معهم.
{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)} {وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ} مصر {مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} لئلا تصيبكم العين {وَمَآ أُغْنِى} أدفع {عَنْكُمْ} بقولي ذلك {مِنَ الله مِن} زائدة {شَئ} قدّره عليكم وإنما ذلك شفقة {إن} ما {الحكم إِلاَّ للَّهِ} وحده {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} به وثقت {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون}.
{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)} قال تعالى {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} أي متفرّقين {مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مّنَ الله} أي قضائه {مِنْ} زائدة {شَئ إِلاَّ} لكن {حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وهي إرادة دفع العين شفقة {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ} لتعليمنا إياه {ولكن أَكْثَرَ الناس} وهم الكفار {لاَ يَعْلَمُونَ} إلهام الله لأصفيائه.
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)} {وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ ءَاوَى} ضم {إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّى أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ} تحزن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الحسد لنا، وأمره أن لا يخبرهم وتواطأ معه على أنه سيحتال على أن يبقيه عنده.
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)} {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية} هي صاع من ذهب مرصع بالجوهر {فِى رَحْلِ أَخِيهِ} بنيامين {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى مناد بعد انفصالهم عن مجلس يوسف {أَيَّتُهَا العير} القافلة {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}.
{قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)} {قَالُواْ} قد {أَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا} ما الذي {تَفْقِدُونَ} ه؟
{قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ} صاع {الملك وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطعام {وَأَنَاْ بِهِ} بالحمل {زَعِيمٌ} كفيل.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)} {قَالُواْ تالله} قسم فيه معنى التعجب {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأرض وَمَا كُنَّا سارقين} ما سرقنا قط.
{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)} {قَالُواْ} أي المؤذن وأصحابه {فَمَا جَزآؤُهُ} أي السارق {إِن كُنتُمْ كاذبين} في قولكم ما كنا سارقين ووجد فيكم؟
{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)} {قَالُواْ جَزآؤُهُ} مبتدأ خبره {مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ} يُسترقُّ ثم أكد بقوله {فَهُوَ} أي السارق {جَزآؤُهُ} أي المسروق لا غير وكانت سنة آل يعقوب {كذلك} الجزاء {نَجْزِى الظالمين} بالسرقة فصرحوا ليوسف بتفتيش أوعيتهم.
{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)} {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} ففتشها {قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} لئلا يتهم {ثُمَّ استخرجها} أي السقاية {مِن وِعآءِ أَخِيهِ} قال تعالى: {كذلك} الكيد {كِدْنَا لِيُوسُفَ} علّمناه الاحتيال في أخذ أخيه {مَا كَانَ} يوسف {لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} رقيقاً عن السرقة {فِى دِينِ الملك} حكم ملك مصر لأنّ جزاؤه عنده الضرب وتغريم مثلي المسروق لا الاسترقاق {إِلآ أَن يَشآءَ الله} أخذه بحكم أبيه: أي لم يتمكن من أخذه إلا بمشيئة الله بإلهامه سؤال إخوته وجوابهم بسنتهم {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشآءُ} بالإِضافة والتنوين في العلم كيوسف {وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ} من المخلوقين {عَلِيمٌ} أعلم منه حتى ينتهي إلى الله تعالى.
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)} {قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} أي يوسف، وكان سرق لأبي أمّه صنماً من ذهب فكسره لئلا يعبده {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا} يظهرها {لَهُمْ} والضمير للكلمة التي في قوله {قَالَ} في نفسه {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} من يوسف وأخيه لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له {والله أَعْلَمُ} عالم {بِمَا تَصِفُونَ} تذكرون في أمره.
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)} {قَالُواْ ياأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} يحبه أكثر منا ويتسلى به عن ولده الهالك ويحزنه فراقه {فَخُذْ أَحَدَنَا} استعبده {مَكَانَهُ} بدلاً منه {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} في أفعالك.
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)} {قَالَ مَعَاذَ الله} نصب على المصدر حذف فعله وأضيف إلى المفعول: أي نعوذ بالله من {أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ} لم يقل (من سرق) تحرّزاً من الكذب {إِنَّا إِذَاً} إن أخذنا غيره {لظالمون}.
{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)} {فَلَمَّا استيئسوا} يئسوا {مِنْهُ خَلَصُواْ} اعتزلوا {نَجِيّاً} مصدر يصلح للواحد وغيره: أي يناجي بعضهم بعضاً {قَالَ كَبِيرُهُمْ} سِنّاً (روبيل)، أو رأياً: (يهوذا) {أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا} عهداً {مِنَ الله} في أخيكم {وَمِن قَبْلُ مَا} زائدة {فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ} وقيل «ما» مصدرية مبتدأ، خبره «من قبل» {فَلَنْ أَبْرَحَ} أُفارق {الأرض} أرض مصر {حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى} بالعود إليه {أَوْ يَحْكُمَ الله لِى} بخلاص أخي {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} أعدلَهُم.
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)} {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانآ أَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ} عليه {إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} تيقنآ من مشاهدة الصاع في رحله {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ} لما غاب عنّا حين إعطاء الموثق {حافظين} ولو علمنا أنه يسرق لم نأخذه.
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)} {واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا} هي مصر: أي أرسل إلى أهلها فاسألهم {والعير} أي أصحاب العير {التى أَقْبَلْنَا فِيهَا} وهم قوم من (كنعان) {وِإِنَّا لصادقون} في قولنا، فرجعوا إليه وقالوا له ذلك.
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)} {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ} زيّنت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} ففعلتموه، اتهمهم لما سبق منهم من أمر يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} صبري {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ} بيوسف وأخويه {جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ العليم} بحالي {الحكيم} في صنعه.
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)} {وتولى عَنْهُمْ} تاركاً خطابهم {وَقَالَ ياأسفى} الألف بدل من ياء الإِضافة: أي يا حزني {عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ} انمحق سوادهما وَبُدِّلَ بياضاً من بكائه {مِنَ الحزن} عليه {فَهُوَ كَظِيمٌ} مغموم مكروب لا يظهر كربه.
{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)} {قَالُواْ تالله} لا {تَفْتَؤُاْ} تزال {تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً} مشرفاً على الهلاك لطول مرضك، وهو مصدر يستوي فيه الواحد وغيره {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} الموتى.
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)} {قَالَ} لهم {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّى} هو عظيم الحزن الذي لا يُصْبَر عليه حتى يُبَثَّ إلى الناس {وَحُزْنِى إِلَى الله} لا إلى غيره، فهو الذي تنفع الشكوى إليه {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من أن رؤيا يوسف صدق وهو حيّ، ثم قال:
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} {يابنى اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} اطلبوا خبرهما {وَلاَ تَايْئَسُواْ} تقنطوا {مِن رَّوْحِ الله} رحمته {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَّوْحِ الله إلاَّ القوم الكافرون} فانطلقوا نحو مصر ليوسف.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)} {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيهالعزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} الجوع {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} مدفوعة يدفعها كل من رآها لرداءتها وكانت دراهم زيوفاً أو غيرها {فَأَوْفِ} أتمّ {لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} بالمسامحة عن رداءة بضاعتنا {إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين} يثيبهم فَرَقَّ عليهم وأدركته الرحمة ورفع الحجاب بينه وبينهم.
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)} ثم {قَالَ} لهم توبيخاً {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} من الضرب والبيع وغير ذلك {وَأَخِيهِ} من هضمكم له بعد فراق أخيه {إِذْ أَنتُمْ جاهلون} ما يؤول إليه أمر يوسف؟
{قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)} {قَالُواْ} بعد أن عرفوه لما ظهر من شمائله متثبتين {أءِنَّكَ} بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين {لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِى قَدْ مَنَّ} أنعم {الله عَلَيْنآ} بالاجتماع {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} يخف الله {وَيِصْبِرْ} على ما يناله {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} فيه وضع الظاهر موضع المضمر.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)} {قَالُواْ تالله لَقَدْ ءَاثَرَكَ} فضّلك {الله عَلَيْنَا} بالملك وغيره {وَإِنْ} مخففة أي إنَّا {كُنَّا لخاطئين} آثمين في أمرك فأذللناك.
{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ} عتب {عَلَيْكُمُ اليوم} خصه بالذكر لأنّه مظنة التثريب فغيره أولى {يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين}.
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)} وسألهم عن ابيه فقالوا ذهبت عيناه فقال: {اذهبوا بِقَمِيصِى هذا} وهو قميص إبراهيم الذي لبسه حين ألقي في النار كان في عنقه في الجب وهو من الجنة، أمره جبريل بإرساله وقال إن فيه ريحها لا يُلقى على مبتلى إلاّ عوفي {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ} يَصِرْ {بَصِيراً وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}.
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)} {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} خرجت من عريش مصر {قَالَ أَبُوهُمْ} لمن حضر من بنيه وأولادهم {إِنِّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أوصلته إليه (الصبا) بإذن الله تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} تسفهوني لصدقتموني.
{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} {قَالُواْ} له {تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك} خطئك {القديم} من إفراطك في محبته ورجاء لقائه على بُعد العهد.
{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)} {فَلَمَّآ أَنْ} زائدة {جَآءَ البشير} (يهوذا) بالقميص وكان قد حمل قميص الدم فأحب أن يفرحه كما أحزنه {أَلْقَاهُ} طرح القميص {على وَجْهِهِ فارتد} رجع {بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)} {قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خاطئين}.
{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)} {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} أخَّرَ ذلك إلى السَّحر ليكون أقرب إلى الإجابة أو إلى ليلة الجمعة ثم توجهوا إلى مصر وخرج يوسف والأكابر لتلقيهم.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99)} {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} في مضربه {ءاوى} ضمَّ {إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} أباه وأمه أو خالته {وَقَالَ} لهم {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله ءَامِنِينَ} فدخلوا وجلس يوسف على سريره.
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)} {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} أجلسهما معه {عَلَى العرش} السرير {وَخَرُّواْ} أي أبواه وإخوته {لَهُ سُجَّدَاً} سجود انحناء لا وضع جبهة وكان تحيتَهم في ذلك الزمان {وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رءياى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَى} إليّ {إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن} لم يقل من الجب تكرّماً لئلا يُخْجِل إخوته {وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو} البادية {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ} أفسد {الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ العليم} بخلقه {الحكيم} في صنعه، وأقام عنده أبوه أربعاً وعشرين سنة أو سبع عشرة سنة، وكانت مدّة فراقه ثماني عشرة أو أربعين أو ثمانين سنة، وحضره الموت فوصَّى يوسفَ أن يحمله ويدفنه عند أبيه فمضى بنفسه ودفنه، ثم عاد إلى مصر وأقام بعده ثلاثاً وعشرين سنة.
{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} ولما تمَّ أمره وعلم أنه لا يدوم تاقت نفسه إلى الملك الدائم فقال. {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} تعبير الرؤيا {فَاطِرَ} خالق {السموات والأرض أَنْتَ وَلِيِّ} متولي مصالحي {فِى الدنيا والأخرة تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} من آبائي، فعاش بعد ذلك أسبوعاً أو أكثر، ومات وله مائة وعشرون سنة، وتشاحّ المصريون في قبره فجعلوه في صندوق من مرمر ودفنوه في أعلى النيل لتعم البركة جانبيه، فسبحان من لا انقضاء لملكه.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)} {ذلك} المذكور من أمر يوسف {مِنْ أَنبَآءِ الغيب} أخبار ما غاب عنك يا محمد {نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} لدى إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} في كيده أي عزموا عليه {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} به أي لم تحضرهم فتعرف قصتهم فتخبر بها، وإنما حصل لك علمها من جهة الوحي.
{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} {وَمَآ أَكْثَرُ الناس} أي أهل مكة {وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم {بِمُؤْمِنِينَ}.
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)} {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي القرآن {مِنْ أَجْرٍ} تأخذه {إِن} ما {هُوَ} أي القرآن {إِلاَّ ذِكْرٌ} عظة {للعالمين}.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} {وَكَأَيِّن} وكم {مِّنْ ءَايَةٍ} دالّة على وحدانية الله {فِي السموات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} يشاهدونها {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} لا يتفكرون بها.
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله} حيث يقرّون بأنه الخالق الرازق {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} به بعبادة الأصنام، ولذا كانوا يقولون في تلبيتهم: «لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك» يعنونها.
{أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)} {أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ} نقمة تغشاهم {مِّنْ عَذَابِ الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} فجأة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بوقت إتيانها.
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} {قُلْ} لهم {هذه سَبِيلِى} وفسرها بقوله {ادعوا إلى} دين {الله على بَصِيرَةٍ} حجة واضحة {أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى} آمن بي عطف على «أنا» المبتدأ المخبر عنه بما قبله {وسبحان الله} تنزيهاً له عن الشركاء {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} من جملة سبيله أيضاً.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)} {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً يُوحِي} وفي قراءة بالنون وكسر الحاء {إِلَيْهِمْ} لا ملائكة {مِّنْ أَهْلِ القرى} الأمصار، لأنهم أعلم وأحلم بخلاف أهل البوادي لجفائهم وجهلهم {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} أي أهل مكة {فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي آخر أمرهم من إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم؟ {وَلَدَارُ الأخرة} أي الجنة {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا} اللَّهَ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} بالياء، والتاء: أي يا أهل مكة هذا فتُؤمنون؟.
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} {حتى} غاية لما دل عليه «وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً» أي فتراخى نصرهم حتى {إِذَا استيئس} يئس {الرسل وَظَنُّواْ} أيقن الرسل {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} بالتشديد تكذيباً لا إيمان بعده، والتخفيف: أي ظنّ الأمم أن الرسل أخلفوا ما وعدوا به من النصر {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُنجِّيَ} بنونين مشدّداً ومخففاً، وبنون مشدّداً ماض {مَن نَّشآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} عذابنا {عَنِ القوم المجرمين} المشركين.
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ} أي الرسل {عِبْرَةٌ لأُلِى الأ لباب} أصحاب العقول {مَا كَانَ} هذا القرآن {حَدِيثًا يفترى} يختلق {ولكن} كان {تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ} قبله من الكتب {وَتَفْصِيلَ} تبيين {كُلِّ شَئ} يحتاج إليه في الدين {وهدى} من الضلالة {وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خصوا بالذكر لانتفاعهم به دون غيرهم.
{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)} {المر} الله أعلم بمراده بذلك {تِلْكَ} هذه الآيات {ءايات الكتاب} القرآن، والإضافة بمعنى (مِنْ) {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} أي القرآن، مبتدأ خبره {الحق} لا شك فيه {ولكن أَكْثَرَ الناس} أي أهل مكة {لاَ يُؤْمِنُونَ} بأنه من عنده تعالى.
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} {الله الذى رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي (العَمَد) جمع (عِمَاد): وهو الاسطوانة، وهو صادق بأن لا عمد أصلاً {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} استواء يليق به {وَسَخَّرَ} ذلّل {الشمس والقمر كُلٌّ} منهما {يَجْرِى} في فلكه {لأَجَلٍ مُّسَمًّى} يوم القيامة {يُدَبِّرُ الأمر} يقضي أمر ملكه {يُفَصِّلُ} يبيّن {الأيات} دلالات قدرته {لَعَلَّكُمْ} يا أهل مكة {بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ} بالبعث {تُوقِنُونَ}.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} {وَهُوَ الذى مَدَّ} بسط {الأرض وَجَعَلَ} خلق {فِيهَا رواسى} جبالاً ثوابت {وأنهارا وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} من كل نوع {يُغْشِى} يغطي {اليل} بظلمته {النهار إِنَّ فِى ذلك} المذكور {لأَيَاتٍ} دلالات على وحدانيته تعالى {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في صنع الله.
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} {وَفِى الأرض قِطَعٌ} بقاعٌ مختلفة {متجاورات} متلاصقات، فمنها طيب وسبخ، وقليل الريع وكثيره، وهو من دلائل قدرته تعالى {وجنات} بساتين {مِّنْ أعناب وَزَرْعٌ} بالرفع عطفاً على جنّات والجرّ على أعناب وكذا قوله {وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ} جمع «صنو»، وهي النُخَيْلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها {وَغَيْرُ صِنْوانٍ} منفردة {تُسْقَى} بالتاء: أي الجنات وما فيها، والياء: أي المذكور {بِمَآءٍ واحد وَنُفَضِّلُ} بالنون والياء {بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل} بضم الكاف وسكونها، فمن حلو وحامض، وهو من دلائل قدرته تعالى {إِنَّ فِى ذَلِكَ} المذكور {لأيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يتدبرون.
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)} {وَإِن تَعْجَبْ} يا محمد من تكذيب الكفار لك {فَعَجَبٌ} حقيق بالعجب {قَوْلُهُمْ} منكرين للبعث {أَءَذَا كُنَّا تُرابَاً أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} لأنّ القادر على إنشاء الخلق وما تقدّم على غير مثال، قادر على إعادتهم، وفي الهمزتين في الموضعين التحقيق، وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وإدخال ألف بينهما على الوجهين وتركها، وفي قراءة بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني وأخرى عكسه {أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وأولئك الأغلال فِى أَعْنَاقِهِمْ وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)} ونزل في استعجالهم العذاب استهزاء {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة} العذاب {قَبْلَ الحسنة} الرحمة {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} جمع (المثلة) بوزن (السمرة): أي عقوبات أمثالهم من المكذبين أفلا يعتبرون بها؟ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على} مع {ظُلْمِهِمْ} وإلا لم يترك على ظهرها مِنْ دابة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} لمن عصاه.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)} {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلآ} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} على محمد {ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ} كالعصا واليد والناقة؟ قال تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} مخوِّف الكافرين وليس عليك إتيان الآيات {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} نبيّ يدعوهم إلى ربهم بما يعطيه من الآيات لا بما يقترحون.
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)} {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} من ذكر وأنثى وواحد ومتعدّد وغير ذلك {وَمَا تَغِيضُ} تنقص {الأرحام} من مدّة الحمل {وَمَا تَزْدَادُ} منه {وَكُلُّ شَئ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} بقدر وحدٍّ لا يتجاوزه.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)} {عالم الغيب والشهادة} ما غاب وما شوهد {الكبير} العظيم {المتعال} على خلقه بالقهر بياء ودونها.
{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)} {سَوآءٌ مِّنْكُمْ} في علمه تعالى {مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} مستتر {باليل} بظلامه {وَسَارِبٌ} ظاهر بذهابه في سربه أي طريقه {بالنهار}.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} {لَهُ} للإِنسان {معقبات} ملائكة تَعْتَقِبَهُ {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} قدّامه {وَمِنْ خَلْفِهِ} ورائه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} أي بأمره من الجنّ وغيرهم {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} لا يسلبهم نعمته {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من الحالة الجميلة بالمعصية {وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً} عذاباً {فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} من المعقبات ولا غيرها {وَمَا لَهُمْ} لمن أراد الله بهم سوءاً {مِن دُونِهِ} أي غير الله {مِنْ} زائدة {وَالٍ} يمنعه عنهم.
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)} {هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا} للمسافرين من الصواعق {وَطَمَعًا} للمقيم في المطر {وَيُنْشِئ} يخلق {السحاب الثقال} بالمطر.
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)} {وَيُسَبِّحُ الرعد} هو ملك موكل بالسحاب يسوقه متلبساً {بِحَمْدِهِ} أي يقول: سبحان الله وبحمده {وَ} تسبح {الملائكة مِن خِيفَتِهِ} أي الله {وَيُرْسِلُ الصواعق} وهي نار تخرج من السحاب {فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ} فتحرقه: نزل في رجل بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم من يدعوه فقال: مَن رسول الله؟ وما الله؟ أَمِن ذهب هو؟ أم مِنْ فضة أم مِنْ نحاس؟ فنزلت به صاعقة فذهبت بِقِحْفِ رأسه {وَهُمْ} أي الكفار {يجادلون} يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم {فِى الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال} القوّة أو الأخذ.
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)} {لَهُ} تعالى {دَعْوَةُ الحق} أي كلمته وهي (لا إله إلا الله) {والذين يَدْعُونَ} بالياء والتاء و: يعبدون {مِن دُونِهِ} أي غيره وهم الأصنام {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَئ} مما يطلبونه {إِلاَّ} استجابة {كباسط} أي كاستجابة باسط {كَفَّيْهِ إِلَى المآء} على شفير البئر يدعوه {لِيَبْلُغَ فَاهُ} بارتفاعه من البئر إليه {وَمَا هُوَ ببالغه} أي فاه أبداً، فكذلك ما هم بمستجيبين لهم {وَمَا دُعآءُ الكافرين} عبادتهم الأصنام أو حقيقة الدعاء {إِلاَّ فِى ضلال} ضياع.
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15)} {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السموات والأرض طَوْعاً} كالمؤمنين {وَكَرْهًا} كالمنافقين ومن أُكره بالسيف {وَ} يسجد {ظلالهم بالغدو} البُكَرِ {والأصال} العشايا.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)} {قُلْ} يا محمد لقومك {مَن رَّبُّ السموات والأرض قُلِ الله} إن لم يقولوه لا جواب غيره {قُلْ} لهم {أفاتخذتم مِّن دُونِهِ} أي غيره. {أَوْلِيَآءَ} أصناماً تعبدونها {لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا} وتركتم مالكهما؟ استفهام توبيخ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} الكافر والمؤمن {أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات} الكفر {والنور} الإيمان؟ لا {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فتشابه الخلق} أي خلق الشركاء بخلق الله {عَلَيْهِمْ} فاعتقدوا استحقاق عبادتهم بخلقهم؟ استفهام إنكار: أي ليس الأمر كذلك، ولا يستحق العبادة إلا الخالق {قُلِ الله خالق كُلِّ شَئ} لا شريك له فيه فلا شريك له في العبادة {وَهُوَ الواحد القهار} لعباده.
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)} ثم ضرب مثلاً للحق والباطل فقال: {أَنَزلَ} تعالى {مِنَ السمآء مآءً} مطراً {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} بمقدارِ ملئها {فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا} عالياً عليه هو ما على وجهه من قذر ونحوه {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} بالياء والتاء {عَلَيْهِ فِى النار} من جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس {ابتغآء} طلب {حِلْيَةٍ} زينة {أَوْ متاع} ينتفع به كالأواني إذا أُذيبت {زَبَدٌ مّثْلُهُ} أي مثل زبد السيل وهو خَبَثُهُ الذي ينفيه الكير {كذلك} المذكور {يَضْرِبُ الله الحق والباطل} أي مَثَلَهُما {فَأَمَّا الزبد} من السيل وما أُوقِد عليه من الجواهر {فَيَذْهَبُ جُفآءً} باطلاً مرميا به {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} من الماء والجواهر {فَيَمْكُثُ} يبقى {فِى الأرض} زماناً، كذلك الباطل يضمحل وينمحق وإن علا على الحق في بعض الأوقات والحق ثابت باقٍ {كذلك} المذكور {يَضْرِبُ} يبيِّن {الله الأمثال}.
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)} {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ} أجابوه بالطاعة {الحسنى} الجنة {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} وهم الكفار {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} من العذاب {أولئك لَهُمْ سُوءُ الحساب} وهو المؤاخذة بكل ما عملوه لا يُغْفَر منه شيء {ومأواهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} الفراش هي.
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} ونزل في حمزة وأبي جهل {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق} فآمن به {كَمَنْ هُوَ أعمى} لا يعلمه ولا يؤمن به؟ لا {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} يتعظ {أُوْلُواْ الألباب} أصحاب العقول.
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)} {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} المأخوذ عليهم وهم في عالم الذرّ أو كل عهد {وَلاَ يَنْقُضُونَ الميثاق} بترك الإيمان أو الفرائض.
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} {والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} من الإيمان والرحم وغير ذلك {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي وعيده {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} تقدّم مثله.
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ} على الطاعة والبلاء وعن المعصية {ابتغآء} طلب {وَجْهِ رَبِّهِمْ} لا غيره من أعراض الدنيا {وَأَقَامُوا الصلاوة وَأَنًفَقُواْ} في الطاعة {مِمَّا رزقناهم سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُنَ} يدفعون {بالحسنة السيئة} كالجهل بالحلم، والأذى بالصبر {أولئك لَهُمْ عقبى الدار} أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة،
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)} هي: {جنات عَدْنٍ} إقامة {يَدْخُلُونَهَا} هم {وَمَنْ صَلَحَ} آمن {مِنْ ءَابَائِهِمْ وأزواجهم وذرياتهم} وإن لم يعملوا بعملهم يكونون في درجاتهم تكرمة لهم {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} من أبواب الجنة أو القصور أوّل دخولهم للتهنئة يقولون.
{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} {سلام عَلَيْكُمُ} هذا الثواب {بِمَا صَبَرْتُمْ} بصبركم في الدنيا {فَنِعْمَ عقبى الدار} عقباكم.
{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض} بالكفر والمعاصي {أولئك لَهُمُ اللعنة} البعد من رحمة الله {وَلَهُمْ سُوءُ الدار} العاقبة السيئة في الدار الآخرة وهي جهنم.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)} {الله يَبْسُطُ الرزق} يوسِّعه {لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} يضيقه لمن يشاء {وَفَرِحُواْ} أي أهل مكة فَرَحَ بطر {بالحياة الدنيا} أي بما نالوه فيها {وَمَا الحياة الدنيا فِى} جنب حياة {الأخرة إِلاَّ متاع} شيء قليل يُتَمتَع به ويذهب.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)} {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} من أهل مكة {لَوْلاَ} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} على محمد {ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ} كالعصا واليد والناقة {قُلْ} لهم {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} إضلاله فلا تغني عنه الآيات شيئا {وَيَهْدِى} يرشد {إِلَيْهِ} إلى دينه {مَنْ أَنَابَ} رجع إليه، ويبدل مِن (مَن).
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} {الذين ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ} تسكن {قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} أي وعده {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} أي قلوب المؤمنين.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)} {الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} مبتدأ، خبره {طوبى} مصدر من (الطِيّب) أو شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها {لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ} مرجع.
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)} {كذلك} كما أرسلنا الأنبياء قبلك {أرسلناك فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ} تقرأ {عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنآ إِلَيْكَ} أي القرآن {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} حيث قالوا لما أمروا بالسجود له: وما الرحمن؟ {قُلْ} لهم يا محمد {هُوَ رَبِّى لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}.
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)} ونزل لما قالوا له: إن كنت نبياً فسيِّر عنا جبال مكة، واجعل لنا فيها أنهاراً وعيوناً لنغرس ونزرع، وابعث لنا آباءنا الموتى يكلمونا أنك نبي {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} نقلت عن أماكنها {أَوْ قُطِّعَتْ} شُقِّقت {بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} بأن يحْيوا لما آمنوا {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا} لا لغيره، فلا يؤمن إلا من شاء إيمانه دون غيره إن أوتوا ما اقترحوا. ونزل لما أراد الصحابة إظهار ما اقترحوا طمعاً في إيمانهم {أَفَلَمْ يَايْئَسِ} يعلم {الذين ءَامَنُواْ أَنْ} مخففة أي أَنّه {لَّوْ يَشَاء الله لَهَدَى الناس جَمِيعًا} إلى الإيمان من غير آية {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ} من أهل مكة {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ} بصنعهم أي كفرهم {قَارِعَةٌ} داهية تقرعهم بصنوف البلاء من القتل والأسر والحرب والجدب {أَوْ تَحُلُّ} يا محمد بجيشك {قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ} مكة {حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله} بالنصر عليهم {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} وقد حل بالحديبية حتى أتى فتح مكة.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)} {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} كما استهزئ بك، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم {فَأَمْلَيْتُ} أمهلت {لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بالعقوبة {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي هو واقع موقعه فكذلك أفعل بمن استهزأ بك.
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)} {أَفَمَنْ هُوَ قآئِمٌ} رقيب {على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} عملت من خير وشر وهو (الله) كمن ليس كذلك من الأصنام؟ لا. دلّ على هذا {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} له مَنْ هم؟ {أَمْ} بل أ {تُنَبِّئُونَهُ} تخبرون الله {بِمَا} أي بشريك {لاَ يَعْلَمُ} ه {فِى الأرض}؟ استفهام إنكار: أي لا شريك له، إذ لو كان لعَلمه، تعالى عن ذلك {أَمْ} بل تسمونهم شركاء {بِظَاهِرٍ مِّنَ القول} بظن باطل لا حقيقة له في الباطن؟ {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} كفرهم {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} طريق الهدى {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
{لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)} {لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا} بالقتل والأسر {وَلَعَذَابُ الأخرة أَشَقُّ} أشدّ منه {وَمَا لَهُم مِّنَ الله} أي عذابه {مِن وَاقٍ} مانع.
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} {مَثَلُ} صفة {الجنة التى وُعِدَ المتقون} مبتدأ خبره محذوف: أي فيما نَقُصُّ عليكم {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار أُكُلُهَا} ما يؤكل فيها {دَآئِمٌ} لا يفنى {وِظِلُّهَا} دائم لا تنسخه شمس لعدمها فيها {تِلْكَ} أي الجنة {عقبى} عاقبة {الذين اتقوا} الشرك {وَّعُقْبَى الكافرين النار}.
{وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36)} {والذين ءاتيناهم الكتاب} كعبد الله ابن سلام وغيره من مؤمني اليهود {يَفْرَحُونَ بِمآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} لموافقته ما عندهم {وَمِنَ الأحزاب} الذين تحزّبوا عليك بالمعاداة من المشركين واليهود {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} كذكر (الرحمن) وما عدا القصص {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ} فيما أنزل إليّ {أن} أي بأن {أَعْبُدَ الله وَلآ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ ادعوا وَإِلَيْهِ مَئَابِ} مرجعي.
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)} {وكذلك} الإنزال {أنزلناه} أي القرآن {حُكْمًا عَرَبِيًّا} بلغة العرب تحكم به بين الناس {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوآءَهُم} أي الكفار فيما يدعونك إليه من ملتهم فرضاً {بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} بالتوحيد {مَا لَكَ مِنَ الله مِن} زائدة {وَلِيٍّ} ناصر {وَلاَ وَاقٍ} مانع من عذابه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)} ونزل لما عيَّروه بكثرة النساء {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أزواجا وَذُرِّيَّةً} أولاداً وأنت مثلهم {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} منهم {أَن يَأْتِيَ بِئَايَةٍ إِلاّ بِإذْنِ الله} لأنهم عبيد مربوبون {لِكُلِّ أَجَلٍ} مدّة {كِتَابٌ} مكتوب فيه تحديده.
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} {يَمْحُو الله} منه {مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ}- بالتخفيف والتشديد- فيه ما يشاء من الأحكام وغيرها {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أصله الذي لا يتغير منه شيء وهو ما كتبه في الأزل.
{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} {وَإِمَّا} فيه إدغام نون «إن» الشرطية في «ما» المزيدة {نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ} به من العذاب في حياتك، وجواب الشرط محذوف: أي فذاك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَكَ} قبل تعذيبهم {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} لا عليك إلا التبليغ {وَعَلَيْنَا الحساب} إذا صاروا إلينا فنجازيهم.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)} {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} أي أهل مكة {أَنَّا نَأْتِى الأرض} نقصد أرضهم {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بالفتح على النبي صلى الله عليه وسلم {والله يَحْكُمُ} في خلقه بما يشاء {لاَ مُعَقِّبَ} لا رادَّ {لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب}.
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)} {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم بأنبيائهم كما مكروا بك {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} وليس مكرهم كمكره، لأنه تعالى {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} فيُعدُّ لها جزاءه، وهذا هو المكر كله، لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون {وَسَيَعْلَمْ الكافر} المراد به الجنس. وفي قراءة «الكفار» {لِمَنْ عُقْبَى الدار} أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة، ألهم أم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)} {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} لك {لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ} لهم {كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} على صدقي {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} من مؤمني اليهود والنصارى.
|